الحرب على “داعش” في الرقة والمحتلون الجدد
(إلى فراس… حارس ذاكرتنا، الباقي وحيداً هناك)
وصفت لجنة تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة عدد الضحايا المدنيين في قصف قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، مدينة الرقة، بالمدهش. وقالت اللجنة أن أكثر من 300 سقطوا في هذا القصف خلال أيام، وأن 160 ألفاً تشردوا من منازلهم. مصادر رقاوية قدمت لائحة اسمية بحوالى 600 شهيد قبل أسبوع من تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة. النازحون من المدينة يحجزون من قبل «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) في معسكرات خاصة، وتصادر هوياتهم، وعليهم أن يثبتوا أنهم ليسوا «دواعش». يتشكل العمود الفقري من قوات «قسد» من تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، والمرجع المعتمد أميركياً في «تحرير» المدينة. التخلص من «داعش» يبدو وشيكاً فعلاً، لكن يحصل الأمر بصورة لا تبالي بحياة سكان المدينة وعمرانها من جهة، ويبدو مرشحاً لخلق مشكلة إثنية متفجرة في المنطقة من جهة أخرى.
التنظيم الكردي الذي يشغل مواقع القيادة والتخطيط فيه كرد من تركيا وإيران، يتصرف مع الأكثرية العربية من السكان بصورة يمتزج فيها الاستعلاء بالقسوة و «الرسالة التحضيرية». شكاوى السكان المحليين منذ الاستيلاء على تل أبيض عام 2015 أكثر تواتراً من أن يؤَوّل الأمر كحوادث عارضة، وبعض منها موثّق على كل حال في تقارير لمنظمات حقوقية دولية، مثل أمنستي إنترناشونال وهيومان رايتس ووتش. ومن هذه الوقائع نهب بيوت ومصادرة ملكيات وترويع المدنيين ومنع عودة النازحين إلى قراهم، وممارسات إذلالية متنوعة.
لكن، ما الذي جعل هذا العدوان على حياة السكان المحليين، قصفهم الأحياء السكنية العشوائي بالهاون وبالفوسفور الأبيض، والاعتداء على كرامتهم وملكياتهم، ممكناً؟ أولاً وقبل كل شيء «تدعيش» السكان، اعتبار سكان الرقة حاضنة «داعش». هذا كلام قيل مراراً وتكرراً بحق سكان كانوا مهمشين في غالبيتهم ومفقرين من قبل، وساهم في خفض الحواجز الأخلاقية والقانونية والسياسية التي كان يمكن أن تحمي حياتهم. هذه آلية إبادة معروفة، نصادفها أيضاً في خلفية عمليات الجينوسايد الكبرى في ألمانيا النازية وفي رواندا وكمبوديا وغيرها.
ويندرج اتهام السكان المحليين بـ «الداعشية» في إطار سردية الحرب ضد الإرهاب التي تماهي بين الإرهاب و «داعش» والسلفية الجهادية عموماً، وتماهي من وجه آخر بين محاربي الإرهاب والأميركيين ومن يواليهم ويتبعهم. وهي لذلك بالذات لا ترى أن أول من وقع تحت إرهاب «داعش» هو سكان المدينة، وأن أبرز ثائريها اختطفوا وقتلوا في سياق استيلاء «داعش» عليها (ومنهم أخي فراس وطبيبي إسماعيل الحامض، وأصدقاء آخرون)، وأن سكانها هم من تمّ الاستيلاء على ملكياتهم وتهجير كثيرين منهم.
هذا الإرهاب الأول والأصلي هو بالضبط ما لا يهتم المحررون – المحتلون الجدد بمحاربته. ولم يظهر الأميركيون وأتباعهم، ولو اهتماماً لفظياً، بمصير المخطوفين والمغيبين عند «داعش»، وليس هناك ما يؤشر إلى أدنى عناية بتحريرهم أو معرفة مصيرهم. بمقدار ما يتعلق الأمر بالسكان المحليين، ما يحصل هو أقرب إلى تجديد للاحتلال والإرهاب «الداعشيين»، كان «داعش» نفسه استمراراً للاحتلال والإرهاب الأسديين.
لكن، ما الذي يفسر دور هذا التنظيم الذي وضع القضية الكردية في سورية ضد السكان العرب وليس في مواجهة النظام الأسدي الذي يحكم البلد منذ نحو خمسن عاماً؟ لا يكاد يكون هناك سر وراء ذلك. التنظيم فرع سوري لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تشغل تركيا موقع إسرائيله، وهو ما وضعه على علاقة قرب متفاوتة الدفء مع كل من الدولة الأسدية في سورية ودولة الملالي في إيران. الواقعة غير المعروفة على نطاق واسع أن النظام سحب قواته من مناطق الكثافة الكردية في سورية لتركيزها في مواجهة الثورة في وقت دالّ جداً، تموز (يوليو) 2012، أي بالضبط عندما كان الحزب الإيراني يسيطر في دمشق في واقعة رمز لها حينذاك اغتيال عنصر خلية الأزمة (18 تموز 2012). في الوقت ذاته تقريباً، كان الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني، أي النظير الإيراني لحزب الاتحاد الديموقراطي في سورية، يُجمِّد علمياته ضد دولة الملالي. هكذا، أخذت الساحة الكردية السورية التي كانت حتى ذلك الوقت جزءاً من الثورة السورية له مطالب خاصة، تتحول إلى ورقة بيد حزب العمال الكردستاني في تركيا وحلفائه.
في هذا الوقت بالذات، تموز 2012، كانت التظاهرات السلمية تتوقف في سورية، بفعل استخدام النظام سلاحَ الطيران واستهداف حتى طوابير الخبز على نحو موثق في تقارير منظمات حقوقية دولية معروفة.
وقبل نهاية 2012، كانت تركيا تحرض تشكيلات من الجيش الحر على مهاجمة رأس العين ومقاتلة التنظيم الكردي، وهو مسلك عابث بالقضية السورية وضيّق الأفق سياسياً، ساهم في جعل سورية ساحة إضافية إلى الصراع بين السلطات التركية والتنظيم الأوجلاني. تركيا سهلت أيضاً تدفق جهاديين أجانب عبر حدودها، مُعوّلة على قتالهم التنظيمَ الكردي، وهو ما تحقق فعلاً. لكن «داعش» الذي استقطب معظم هؤلاء الجهاديين العنيفين، لم يقتصر على مقاتلة الكرد، وشملت حربه تشكيلات الجيش الحر ومجموعات إسلامية، واستولى في حركة توسع سريعة عام 2014 على الرقة ومناطق واسعة في دير الزور، وشرق حلب وحماة وحمص، وعلى الموصل في العراق، وحاولت احتلال عين العرب – كوباني، البلدة ذات الغالبية الكردية شمال شرقي حلب. هنا وقع التدخل الأميركي، وتم صد «داعش» عن البلدة التي تدمرت بصورة شبه كلية.
التنظيم الكردي ذو الخبرة القتالية الطيبة والهيكلية المتينة المستمرة طوال ثلاثة عقود، ربط نفسه بعد التدخل الأميركي باستراتيجية الصراع ضد «داعش»، وعمل على الارتباط بالروس أيضاً بعد تدخلهم عام 2015 لمصلحة النظام. لكنه تحول عبر هذه الروابط مع قوى دولية نافذة، وانخراطه في حرب اختيارية وهجومية في مناطق ذات أكثرية عربية، إلى تغليب أجندة حزب العمال الكردستاني في سورية على حساب الأجندة الخاصة بحقوق الكرد السوريين، على ما أظهر تقرير للمجموعة الدولية الخاصة بالأزمات في تقرير لها صدر في 4 أيار (مايو) الماضي («خيار حزب العمال الكردستاني المنذر بالسوء في شمال سورية»).
الارتباط بالحزب الأوجلاني التركي يفسر واقعة مدهشة أخرى يبدو أنها أدهشت الكرد السوريين مثل غيرهم: تلك الرمزيات الحديثة التي تم تعميمها على نطاق عالمي بعد معركة كوباني، مشفوعة بخطاب اجتماعي تحرري (مظهر النساء، تناصف المناصب بين الجنسين، خطاب عن الإدارة الذاتية الديموقراطية…).
هذا يمد جذوره في حياة فكرية وسياسية تركية أنشط بكثير من سورية، ومتوجهة نحو الغرب منذ أجيال، مع وجود جاليات كردية كبيرة من كردستان تركيا في أوروبا. ليس للأمر ذاكرة في سورية، ولا منابر ولا نقاش، ولم تبذل في أي وقت جهود للتواصل مع أي بيئات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية سورية، وتبدو محدودة جداً حتى في النطاق الكردي السوري.
والقصد أن التقاء هذه العناصر: حداثة برانية تصلح للتسويق في الغرب، واندراج في مخطط تنظيم غير سوري أقرب للنظام السوري والإيراني، واعتلاء قطار الحرب ضد «داعش»، هو ما جعل قتل مدنيي الرقة وإذلالهم مأمون العواقب.
وليس إلا مطالبة برخصة مفتوحة في القتل اتهام كل من يعترض على منهج الإذلال بأنه «داعشي». هذا منهج النظام وأتباعه في رد الصراع في سورية إلى ثنائية النظام أو الإسلاميين. وهو واقع اجتهد النظام بكل طاقته من أجل صنعه، ولا يزال غير محقق. صناعة كهذه أيضاً يشتغل عليها التنظيم المعتمد عند الأميركيين حين يتوسط لديهم لاستبعاد تشكيل «لواء ثوار الرقة» المكون من مقاتلين محليين من معركة تحرير مدينتهم. اللواء كان مقاتلاً «داعش» طوال الوقت، وهو جزء من «قسد». الجماعة يصنعون الواقع الذي يهوون الشكوى منه.
تبقى نقطتان جديرتان بالذكر. يخطئ معارضون وناشطون عرب حين يتكلمون على تنظيم الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية بأنه انفصالي. فعدا أن هناك حقاً مبدئياً للكرد في دولة مستقلة، ينفصلون فيها عن الدول التي تقاسمت كردستان، وفق السردية القومية الكردية (الانفصال عن سورية وحدها متعذر لعدم التواصل الأرضي بين مناطق الكثافة الكردية، ولقلة المناطق الصافية كردياً)، فالمشكلة في الواقع هي أن التنظيم فرع لحزب آخر، أن الاستراتيجية تصنع في مكان آخر ولغرض آخر، لا تكاد تكون سورية غير ساحة له، ولا يكاد يكون كردها غير ورقة فيه. ما ليس مقبولاً ليس طموح الكرد السوريين للانفصال، بل توجيه هذا الطموح ضد السكان غير الكرد (والكرد المعارضون للتنظيم الأوجلاني)، وممارسة من كانوا مضطهَدين قبل قليل الاضطهاد في مناطق عربية كان سكانها مهمشين من قبل الدولة الأسدية.
النقطة الثانية تتعلق بمستقبل الرقة والجزيرة بعد «داعش». ليس هناك مؤشرات إلى التزام أميركي طويل الأمد في الجزيرة السورية. هذا يترك الباب مفتوحاً لإعادة المنطقة إلى الدولة الأسدية، وحلفائها الإيرانيين والعراقيين. قد نرى ذلك خلال أشهر من اليوم. هل هناك احتمال لعمليات تطهير عرقي يشكل استرخاص حياة مدنيي الرقة تمريناً عليها؟ هذا ربما يحتاج إلى إحياء «داعش» بعد موته، أو إبقائه قادراً على القيام بعمليات إرهابية، تسوغ حملات تأديبية وتطهيرية بحق السكان من وقت إلى آخر. تهجير سكان مناطق متعددة من جانب الدولة الأسدية يمكن أن يكون نموذجاً يحتذى في هذا الشأن. وتحت جناح الحرب، يمكن أن ترتكب جرائم كبيرة، وتغطى جرائم كبيرة.
ما يستمر من الأسدية إلى «داعش» إلى «قسد» هو تجريد السكان من ملكية منطقتهم وتمثيل أنفسهم والعيش بكرامة على أرضهم.
اورينت نت