النص المفقود من خطاب الساسة الأتراك في القضية السورية
بقلم: ناجي رضوان كاتب سياسي
غالبا ما يغيب جزء من الحقيقة والتصورات عن خطاب سياسي ما، وذلك قد يكون بشكل مقصود لدعم رؤية سياسية محددة، أو غير مقصود نتيجة قصور الطرح أو حتى اختلاف الآراء والتصورات.
لكن تلك الحلقة المفقودة والنص الغير المذكور سيكون له أثر كبير في بناء تصور عقلاني بين الخطاب والفعل السياسي على أرض الواقع. خلال عقد من الزمن شكلت القضية السورية، ووجود اللاجئين جزءا من الخطاب السياسي الأتراك. لم تكن مكان إجماع في معظم التصورات، ولكن منذ 2020 وحتى الآن شهد الخطاب السياسي التركي تجاه القضية السورية إجماعاً، حول تصور شبه موحد وتقلص المسافة بين الخطاب المعارض وخطاب الرسمي، بعيد انتخابات 2022 ليصبح خطاباً موجهاً على أزمة اللاجئين وفتح العلاقات مع النظام والعملية الأمنية التركية في شمال شرق سوريا بشكل أكبر.
هذا التقارب في الخطاب ترك مجموعة مختلفة من النصوص المفقودة والتساؤلات المسكوت عنها:
الأمن مقابل اللاجئين (تدخل أمني مفروض ولجوء إنساني مرفوض):
منذ عملية درع الفرات عام 2016م، وحتى الآن يقر البرلمان التركي بضرورة السماح للجيش التركي بالقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود، وذلك لملاحقة عناصر (PKK) ضمن عملية أمنية استباقية وقائية على طول حدود مع سورية كعملية غضن الزيتون ونبع السلام، بينما تنخرط تركيا كدولة ضامنة في مسار أستانا، وما نتج عنه من مناطق خفض التصعيد ومصير هذه المناطق التي نُقِلَت سكانه إلى مناطق شمال غرب سوريا.
كمحصلة يمكن القول إن علاقة تركيا بالقضية السورية والمعارضة هي تحالف إجباري، فالمعارضة والقوى العسكرية في الشمال الغربي لم يكن لديها خيار سوى تركيا كدولة، وتركيا لم يعد لديها خيار سوى التدخل العسكري وانخراط في الحل السوري بعيد 2016 وتنامي دور قوات سوريا الديمقراطية. غير أن ذلك التدخل وحسب الإحصائيات الرسمية التركية لم يكن محدود الآثار والتكاليف، ولم يقتصر على الآثار العسكرية والسياسية، لكن خلق موجات هجرة كبيرة نحو الولايات التركية حيث ارتفاع عدد السوريين في تركيا من 1،8 ملايين إلى 4 ملايين خلال الفترة من 2016 إلى 2020 ،ولكن اليوم أصبحت هذه الأعداد مرفوضاً ويجب إيجاد حل لمشكلة وجودها – النص المفقود هل يستطيع الساسة الأتراك حل قضية اللاجئين دون حل مشكلتهم الأمنية وهل طرح أزمة اللاجئين طرح إنساني أو أمني – هذه الحالة من رفض اللجوء هي اعتراف ضمني بعدم قدرة الساسة الأتراك على حل الجذور الأمنية للمشكلة في سوريا وأهمها حل التهديد الأمني على مستوى الأمن القومي التركي.
لجوء منقوص الحقوق (من المهاجرين والأنصار إلى ضيوف غير مرغوب بهم):
ينص قانون اللجوء والحماية التركي: على أن حاملي الجنسية السورية والعراقية يحملون بطاقة خاصة (ضيوف)، وليس بطاقة لجوء دُوَليّ وقيد لجوء دُوَليّ، وذلك لأسباب سياسية ولتقديم تسهيلات أسرع وأكثر لهم في تلقي الخدمات. هذه التوصيف القانوني هو إقرار ضمني بخصوصية هذه الفئة، كنتيجة لعمليات عسكرية تركية في سوريا والعراق وليس اعتراف كامل كما يمكن تصوره.
لكن التعامل الرسمي التركي بدء عاطفياً وقدم صورة “المهاجرين والأنصار” في مرحلته الأولى، وذلك لاستيعاب أزمة اللجوء ولأسباب مختلفة، ثم انتقال مع الجولات الانتخابية وطبيعة التغيير الديمقراطي السياسي التركي، إلى خطاب شبه متقارب بين المعارضة والنظام يدور حول أزمة اللاجئين وضرورة عودتهم وتقديم أثرهم السلبي على الاقتصاد المحلي ثم السعي للتقارب مع الأسد كحل لتلك الأزمة.
لكن لماذا لم يتم التعامل مع اللاجئين السوريين حسب قواعد القانون الدُّوَليّ وحسب تعريفهم كلاجئين لهم حق التنقل والحصول على الوثائق الدولية للسفر؟
يعود ذلك إلى مخاوف الساسة الأتراك من فكرة استقرار اللاجئين، وخصوصا في الولايات الجنوبية وتحول تركيا إلى وطن بديل كما يقدم خطاب المعارضة الرافض للوجود السوري، أو إقرار ضمني بضرورة عودتهم ضمن عملية سياسة سورية حسب الخطاب الرسمي من جهة، والاتفاقيات دعم استقرار اللاجئين وعدم وصولهم إلى دول الاتحاد الأوربي من جهة أخرى.
إلا أن أُثر فقدان هذا الوضوح القانوني لوضع اللاجئين كان كارثي على السوريين، فلقد شكلت تعقيدات سلطة إدارة الهجرة التركية، وقرارتها المتغيرة وصلاحياتها المتسعة، أزمة خوف في حياة السوريين في تركيا وعزز هذا الخوف المشروعات الداعية لعودة طواعية – يراها بعض السوريين قصرية – بعيد 2020 حيث تم وقف تجديد الإقامة وتسجيل العنوان، وبعض حالات الترحيل التعسفي فأصبح الخوف هو الجزء أكبر من حياة السوريين في تركيا.
دولة ريِع اللجوء (المنح مقابل منع الوصول إلى دول الاتحاد الاوربي)
تلقت تركيا دعم مالي وسياسي من دول الاتحاد الأوربي، لاستيعاب وجود اللاجئين ومنع وصولهم إلى دول الاتحاد الأوربي. وتصنف تركيا ضمن دول ريع اللجوء: إي الدول التي تحصل على المساعدات للحد من تدفق حركة اللاجئين باتجاه الاتحاد عموما. لكن ذلك الدعم عادة لا يتم ذكره، بل يتم التركيز على الانفاق الحكومي التركي على اللاجئين، أو التساهل الضريبي، ولفهم حجم الدعم الذي تتلقاها تركيا يكفي الإشارة إلى أن الأمم المتحدة والدول المانحة أوقفت دعم اللاجئين في لبنان والأردن ولم تلمح إلى خطوة مماثلة في تركيا.
حيث أن الجزء الدولي من الدعم مسكوت عنه بطبيعة الحال. فما هو الدور الاقتصادي للسوريين في تركيا وما جحم الاستثمارات والعمل والأنفاق لنحو أربعة مليون انسان على الاقتصاد التركي؟؟ وهل وجود السوريين في ولايات محددة هو سبب الأزمات الاقتصادية والبطالة أو سبب للإنعاش؟؟ والنص المفقود هنا هو إذا كانت الحكومة التركية تسعى لإنهاء ملف اللاجئين، فما هي الصفقة الريعية الجديدة التي حصلت عليها وما أثرها المباشر على الاقتصاد التركي؟
مناطق غير آمنة ونظام سياسي منهار (جدوى العودة وإمكانيتها):
رغم الخطط التركية لعودة اللاجئين والإحصائيات التي تقدمها مديرية الهجرة حول العودة الطوعية، لكن النص المفقود ما هي إمكانية العودة إلى سوريا ضمن سلطات سياسية متنوعة، وفي ذلك جزئي: هل يرغب الساسة الأتراك بالعودة إلى نظام سياسية منهار اقتصادياً وأمنياً ويعاني من سيطرة إيرانية كاملة، أو الانتقال إلى مناطق تسميه الإدارة الرسمية التركية مناطق أمنة وهي مسرح لتجدد الاشتباكات الداخلية في أي وقت، وتعاني من قصور واضح في الخدمات وفشل حكومي في الإدارة.
وما جدوى العودة إلى مناطق النظام التي وثقة الشبكة السورية لحقوق الإنسان (126) لاجئا معتقلا منذ مطلع 2024.
ختاماً: إن الخطاب السياسي التركي يظهر كجزء من رغبة دولية في حل الملف السوري، من خلال بوابة الازمة الإنسانية وعودة اللاجئين إلى بلادهم. وحتى الان فهذه العودة دون ضمانات حقيقة، أو مستقبل سياسي واضح في سوريا. وهل ستدفع هذه الرغبة والقضية الإنسانية إلى حل في سوريا؟ رغم وجود الأساس السياسي لأزمة السوريين، وهو نظام الأسد فهذا هو النص المفقود الأهم لدى السوريين في معظم الخطابات الإقليمية والدولية حول سوريا.