من البكيني إلى البوركيني… هل تتحكم القوانين في خيارات السباحة بسوريا؟واشنطن تعلن حالة التأهب في قواعدها العسكريةحساسية الخطاب الاجتماعي وتأثيره على الاستقرار في سورياحياة بين السلطة والإجرامملفات استخباراتية تكشف أسرارًا غير معلنة حول احتجاز أوستن تايسقرار جديد في المدينة الصناعية بحلباستئناف التداول في سوق دمشقمكافحة التضليل الرقمي.. وزارة الإعلام السورية تتخذ إجراءات جديدةحلب تحت الأضواء.. زيارات دولية تعزز إرثها الثقافيخطط قيد التنفيذ..إعادة إحياء قطاع السيارات في سورياخارطة جدية للعراق . . . من سيرسمها ؟تحولات إقليمية.. ماذا يحمل لقاء الشرع وأردوغان لدمشق وأنقرة؟توجيه جديد لخطباء المساجد في سوريا . .اتفاق بين حــ.ماس والمبعوث الأمريكي.. هل يتحقق السلام؟العودة إلى الوطن.. قافلة إنسانية تحمل السوريين إلى درعا من جديد

حساسية الخطاب الاجتماعي وتأثيره على الاستقرار في سوريا

حساسية الخطاب الاجتماعي وتأثيره على الاستقرار في سوريا
مقدمة
بعد سقوط نظام الأسد وعودة النازحين إلى مدنهم وقراهم، أصبح الخطاب اليومي – بما يحمله من مفردات شائعة وإيماءات لغوية – حاملاً دقيقاً للتمايزات الرمزية التي لا تقال صراحة، لكنها تمارس كوسيلة لإنتاج الانتماء أو نفيه ومن هذا المنطلق، لا يمكن التعامل مع الترحيب بالعائدين إلى سوريا كإجراء لغوي محايد أو مجاملة اجتماعية روتينية، بل كفعل رمزي كثيف المعنى، يكشف بنية خفية من الانقسامات الاجتماعية والسياسية التي راكمتها سنوات النزاع والشتات والانقسام الجغرافي والثقافي.
فبين “الحمد لله على السلامة” و”أهلاً وسهلاً”، يتوارى سؤال محوري حول من هو الداخل ومن هو الخارج، من بقي ومن عاد، ومن يعتبر من الجماعة ومن يعاد تعريفه كـ”آخر” محتمل وفي هذا السياق، يطرح هذا المقال تساؤلاً أساسياً: كيف تتحوّل العبارات اليومية البسيطة إلى أدوات لإعادة ترسيم الحقول الرمزية داخل المجتمع السوري؟ وهل يمكن أن يشكّل خطاب الترحيب نقطة انعكاس لصراع أعمق حول الانتماء، والهوية، والذاكرة الجماعية؟
تحاول المقالة استكشاف العلاقة بين اللغة والسلطة الرمزية، بوصفها إحدى آليات إنتاج التمايز الاجتماعي بعد النزاع، وتسعى إلى تفكيك الديناميات الثقافية وتحليل الخطاب الترحيبي كمدخل لفهم أوسع لحالة الانقسام المجتمعي الراهن، الذي لا يقتصر على السياسة وإنما يمتد إلى الذاكرة، والوجدان الجمعي ذاته.
الترحيب كأداة لإنتاج التمايز الاجتماعي
يبدو من الوهلة الأولى أن اختلاف العبارات المستخدمة في استقبال العائدين إلى سوريا – بين من يقول “أهلاً وسهلاً بكم” ومن يقول “الحمد لله على السلامة” – أمر بسيط أو حتى لغوي، لكنه في الواقع يعكس انقسامات اجتماعية وثقافية حادة، تشكّلت وتفاقمت خلال سنوات النزاع والانقسام الجغرافي فالعبارة الأولى توحي بتعامل المقيم مع العائد كغريب أو ضيف، كمن يدخل فضاءً لم يكن فيه وكأنّ له سمات الآخر، أو كأنه يحمل هوية “مختلفة” اكتسبها في مكان اللجوء أو المهجر في المقابل، تشير العبارة الثانية إلى أن العائد كان في الأصل جزءً من النسيج الاجتماعي، وأنّ غيابه كان عارضاً اضطرارياً، وبالتالي فإنّ عودته تعد استعادة لما كان لا إدخالاً لعنصر جديد.
في هذا السياق، لا يمكن اعتبار الخطاب كلمات عابرة أو مجاملة اجتماعية، وإنما ممارسة رمزية ذات حمولة سياسية واجتماعية كثيفة فالكلمات التي تقال للعائد لا تعبّر فقط عن الترحيب أو الفتور، وإنما تشكّل أداة لإعادة رسم الحدود بين “نحن” و “هم” ويبرز السؤال هنا هل النازح/ اللاجئ العائد هو “نحن”؟ أم أنه تحوّل إلى “هم”؟ وهل بات ينظر إليه كمن اختار النجاة في الخارج على حساب التضحية في الداخل؟ أم كمن تَشكّلت له رؤى ومواقف سياسية جديدة قد تهدد التوازنات المحلية، أو تعيد طرح أسئلة محرجة حول الشرعية والمظلومية والولاء؟
هنا، يدخل الخطاب في قلب الصراع الاجتماعي حول الهوية والانتماء، فالكلمات تستخدم لتثبيت مواقع في الحقل الرمزي فمن بقي يرى في نفسه “الأصيل” وربما “الضحية”، بينما من عاد يعامل بوصفه “المتغيّر” أو حتى “الطارئ”. وبهذا المعنى، تصبح عبارة الاستقبال اختباراً ضمنيّاً لموقف الجماعة من عملية عودة اللاجئين ككل: هل هي عودة إلى حضن مألوف، أم ارتداد غير مرحب به إلى فضاء فقد فيه العائد مكانته؟
إنّ هذا الانقسام الخطابي يعبّر عن صراع خفيّ حول الذاكرة، والشرعية، والمواطنة، ويكشف عن هشاشة الانتماء الوطني خاصة عندما تفرز المجتمعات أبناءها بناءً على مكان اللجوء أو خيارات النجاة فكل كلمة تقال عند العودة، تحمل في طياتها حكماً ضمنياً على الماضي وتوقعاً للمستقبل، وربما رسماً جديداً لخارطة “من ينتمي حقاً، ومن لا” ومن هذا المنطلق، لم يكن مستغرباً أن يظهر في المدن والقرى السورية التي شهدت عودة كثيفة للنازحين خطاب جديد بين السكان المقيمين، عنوانه: “هؤلاء الناس الجدد”، في إشارة إلى العائدين، وهنا لابد للإشارة بأنه لا يقصد بـ”الجدد” المعنى الزمني، وإنما المعنى الاجتماعي والسياسي؛ كأنّ العائدين قد تشكّلوا كهوية مغايرة، أو جرى تصنيعهم كـ”آخرين” داخل الفضاء الاجتماعي الذي كانوا ينتمون إليه سابقاً الأمر الذي يكشف نزعة تمييزية واضحة، إذ يفترض أن التجربة الاجتماعية التي مرّ بها المقيم والعائد تختلف جوهرياً وربما أخلاقياً عن بعضهما البعض وبالتالي، فإن كليهما لم يعودا يشتركان في سردية وطنية أو مجتمعية واحدة أو على الأقل، لم يعودا يتحدثان اللغة الرمزية ذاتها.
ومن زاوية سوسيولوجية يمكن القول إنّ ما يجري هو نوع من “إعادة الترتيب الرمزي للفضاء الاجتماعي”، حيث يعاد تصنيف الناس بحسب ما خاضوه – أو لم يخوضوه – من معاناة القصف والتهجير فلعائدين، الذين تحملوا سنوات القصف، والحصار، والتهجير، وكذلك المقيمين الذين تحملوا الفقر والعقوبات الاقتصادية والحالة الأمنية المتوحشة في ظل سلطة الأسد، يشعرون – عن حق أو باطل – بأنهم دفعوا الثمن الأغلى، وهنا يتحوّل هذا “الرأسمال الأخلاقي” إلى مورد رمزي يحتكر من طرف على حساب الآخر وفي الغالب يستدعى هذا الرأسمال في الحياة اليومية، ويستخدم لتبرير الامتياز الأخلاقي وفرض نوع من الهرمية الرمزية: من بقي وصمد هو الأجدر بالانتماء، أمّا من خرج، فقدْ فقدَ – في نظر البعض – شيئاً من “أصالة” هذا الانتماء.
وضمن هذا السياق، يعاد تأطير العائدين – في بعض الخطابات المحلية – لا بوصفهم ضحايا للتهجير، بل كـ”ناجين” أو حتى “مترفين”، خاضوا تجربة لجوء أقل قسوة نسبياً، خصوصاً في الدول الأوروبية أو الجوار، ورغم أن هذه النجاة كانت اضطراراً في الغالب فإنها تحمَّل أحياناً بدلالات سلبية، تقارب التواطؤ أو الانفصال الرمزي والاعتقاد بتفاوت الاستحقاق، ما يفضي إلى ممارسات تهميشية تتجلى في الإقصاء الرمزي، التجاهل، أو الاستعلاء الأخلاقي، بوصفها معياراً يحدّد من يعتبر منتمياً بحق، وأداة لإنتاج الآخر داخل الفضاء الوطني نفسه
صراع السرديات والاختلافات الثقافية
واحدة من أعقد التحديات عند سقوط النظام أي تلك اللحظة التاريخية التي انهارت فيها سلطة الأسد وبدأت تتآكل الثقافة السابقة وإرثها أمام قوى اجتماعية وثقافية جديدة، هي الانكشاف الثقافي الكبير الذي طرأ على قطاعات واسعة من السوريين، خصوصاً في الشمال السوري، مقارنة بالمجتمعات التي بقيت تحت سيطرة النظام فالانكشاف هنا لا يعني فقط الاطلاع على ثقافات جديدة، بل في المقام الأول هو تعرض الوعي الجمعي لصدمات تحوّلية في مفاهيم السياسة، والسلطة، والمجتمع، والذات.
وفي هذا السياق، تمكن الشمال السوري، رغم ظروف الحرب، أن ينتج – ولو بشكل هش ومؤقت – ثقافة محلية منسجمة نسبياً، بفعل التماثل في تجربة الثورة، والنزوح، والتهجير، وبفعل الاضطرار لإنتاج آليات حكم محلية، وخطابات تضامن بين جماعات متجاورة وعلى الجانب الآخر، اللاجئون الذين عاشوا في بيئات أوروبية أو تركية أو لبنانية تعرّضوا لتجارب اجتماعية وسياسية كثيفة، شملت كل شيء بدءً من أنماط السكن والعمل، إلى حرية التعبير، إلى الاحتكاك اليومي بمفاهيم مثل الفردانية، والاندماج، والحقوق، والمواطنة، هذه التجارب لم تمر مرورًا عابرًا، سيما أعادت تشكيل عقول وسلوكيات وسرديات كثيرين منهم، فأصبح البعض يتبنّى أنماط حياة جديدة ويطالب بقيم سياسية مختلفة عن تلك التي نشأ عليها وفي المقابل، بقي المجتمع في الداخل – وخصوصاً تحت سيطرة النظام – أسير سياق أحادي شبه مغلق، مثقل بثقافة الخوف والانضباط والرقابة، فالحرب الطويلة والانهيار الاقتصادي وقمع الأجهزة الأمنية، كل ذلك ساهم في تجميد الحياة الثقافية وفي الحفاظ القسري على بنية ثقافية تقليدية، يعاد إنتاجها تحت منطق النجاة اليومية.
وكنتيجة مباشرة لهذا التباين الثقافي الكبير، تشهد البنية المجتمعية السورية توتراً متصاعداً بين فئات يفترض أنها تنتمي إلى نسيج اجتماعي واحد وذات ذاكرة جماعية مشتركة، غير أنّ هذا التوتر لا ينبع فقط من الاختلاف في التجارب، بل يتغذّى من خطاب المقارنة المستمر، الذي يتحوّل من وسيلة للفهم إلى أداة ترسيخ للانقسام فمن جهة، ينزع بعض العائدين إلى انتقاد ما يرونه مظاهر ‘تخلّف’ في الداخل سيما الذين بقيوا تحت سيطرة الأسد، سواء على مستوى الثقافة أو الذهنية أو الممارسة السياسية، وهو نقد يتسم أحياناً بنبرة استعلائية، مستنداً إلى تجربة الثورة السورية أو تجارب الاغتراب والتي ُنظر إليها كأكثر تحرّراً أو تطوراً في المقابل، يتبنى المقيمون خطاباً دفاعياً يتّهم العائدين بأنهم ‘فقدوا هويتهم’ أو ‘تشبّهوا بالآخر وجلبوا ثقافات دخيلة’ أو ‘انفصلوا عن بيئتهم الأصلية’، في محاولة لصيانة الذات من التفكك الثقافي إلا أنّ هذا الخطاب في جوهره، لا يعبّر فقط عن رفض، بل يعيد إنتاج العائدين بوصفهم غرباء مشكوكاً في انتمائهم، ما يعمق فجوة الثقة ويؤسس لشرخ رمزي يصعب تجاوزه.
هكذا يصبح الخطاب الثقافي – بما فيه اللغة اليومية، والنقد المتبادل، وصور الهوية – أداة لإعادة إنتاج الانقسام السوري، عبر تعزيز الإحساس بالاختلاف، بدلاً من ترميمه. وتفشل الثقافة، حينئذ، في أداء دورها التوحيدي، وتُستثمر بدلاً من ذلك في الصراع على التعريف: من هو السوري الحقيقي؟ من بقي أم من عاد؟ من صمد أم من غيّر نفسه؟ وهذا السؤال لا يفتح فقط على أزمة هوية وطنية، وإنما يهدد أي إمكانية مستقبلية لبناء فضاء سياسي جامع بعد النزاع وفي ذات السياق، يأخذ هذا الانقسام بعداً أكثر وضوحاً في إحدى أبرز السجالات المتكررة في الخطاب الشعبي السوري بعد التغيير، وهي المقارنة بين عهد الأسد والحكومة السورية الجديدة، حيث يعبّر بعض المقيمين، مدفوعين بإحباط ما بعد النظام، عن حنين مبطّن لما يعتبرونه “استقراراً” أو “أماناً” في زمن الأسد، حتى وإن اقترن ذلك بالقمع، بينما يحرص كثير من العائدين على التأكيد بأن الحرية – رغم الفوضى – هي مكسب لا يمكن التراجع عنه، وأن الكرامة الإنسانية لا تقارن بأي شكل من أشكال “الاستقرار القسري”
في هذا السياق، تظهر هذه المقارنات بوصفها امتداداً لخطاب الانقسام الذي سبق بيانه، إذ تكشف ليس فقط عن توتر ثقافي واجتماعي، وإنما عن مدى تغلغل الذهنية السلطوية في البنية المجتمعية، كما تبرز فجوةً في الوعي السياسي بين من خاضوا تجربة الثورة أو اللجوء، ومن بقوا تحت سطوة النظام، ما يجعل هذا التباين مادةً توظّف في الصراع الرمزي بين الطرفين فالمقيم يردّد أن من ‘أسقط النظام’ لم يجلب بديلاً أفضل، متهماً العائدين بجلب الفوضى، بينما يردّ العائد بأن ‘الصمت على الظلم’ هو ما أبقى الاستبداد قائماً لعقود وهكذا، بدلاً من أن يفضي هذا الجدل إلى حوار نقدي حول البدائل والمسؤوليات المشتركة لبناء الدولة الجديدة، ينزلق إلى صراع سرديات متضادة، يتمسّك فيه كل طرف بدوره كضحية، وينازع الآخر على احتكار الحقيقة، وهو ما يزيد الاستقطاب ويضعف إمكانية بناء سردية وطنية جامعة لمستقبل أكثر عدالة واستقراراً للأجيال الجديدة.
الخاتمة
إن التعامل مع حساسية الخطاب الاجتماعي في مرحلة ما بعد الأسد لا يتطلب وعيًا لغويًا أو ثقافيًا فحسب، بل يستلزم مشروعًا اجتماعيًا وسياسيًا طويل الأمد لإعادة بناء الجماعة الوطنية السورية على أساس الاعتراف والإنصات المتبادلين. فالثنائية بين “مقيم” و”عائد”، أو “من بقي” و”من غادر”، لم تعد فروقًا في التجربة فحسب، بل تحوّلت إلى هويات متصارعة تُهدد بإعادة إنتاج الانقسام داخل المجتمع ومن هنا، تبرز الحاجة إلى خطاب تشاركي يعترف بأن جميع السوريين مرّوا بمعاناة حقيقية، وإن اختلفت في طبيعتها وظروفها فالمعاناة لا ينبغي أن تكون ميدانًا للتنافس الأخلاقي وإنما مدخلاً للفهم والتضامن وإعادة البناء، كما إن تجاوز هذا الانقسام الرمزي والمعنوي يتطلب تدخلاً نشطاً من الإعلام، والتعليم، والمجتمع المدني، لتفكيك الصور النمطية، وإعادة تعريف الهوية السورية كمشروع مستقبلي “قيد التكوين”، مستفيداً من التجارب السابقة ولكنه غير مبني على صراعات الماضي. كما ينبغي دعم مبادرات مجتمعية تشرك المقيمين والعائدين في مشاريع تنموية وثقافية واقتصادية تعزز تبادل التجارب، وتعيد بناء الثقة على أساس التعاون وأخيراً، فالتحول الحقيقي يبدأ حين تعيد الجماعة السورية تخيّل ذاتها كـ”نحن” واحدة، لا تنكر الألم، ولا تبتز به وإنما تحوّله إلى دافع للمضي قدماً والعمل المشترك.

 

مجيب خطاب

مدير قسم المشاركة السياسية في وحدة دعم الاستقرار

زر الذهاب إلى الأعلى