“لكي تبقى في سوريا عليك أن تدفع الثمن”…… هكذا بقيت شركة “لافارج” الفرنسية في سوريا؟
عمر حاج حسين
تغافَل المستثمرون الفرنسيون واعتقدوا أن التنظيم “باقٍ ويتمدد” وأنهم لن يُحاسبوا، ولكن وبعد الإنتهاء من تنظيم “الدولة” وإعلان سحقه من سوريا عام 2019، بدأت التحقيقات في ملاحقة الضالعين بتمويل عناصر التنظيم، وكانت الشركة وإدارتها على رأس القائمة في المحاكم الفرنسية والأمريكية.
وعن لافارج فهي شركة تابعة للتكتل العملاق “لافارج هولسيم”، وهو أكبر منتج للإسمنت حول العالم، حيث تمتلك وتشغل أكثر من 2500 مصنع في 90 بلداً حول العالم، تدر عليه سنوياً ما يفوق 32 مليار دولار، ناجمة عن تصنيع وبيع 387 مليون طن سنوياً، ويعمل في هذه مصانع وشركات التكتل العملاق جيش من الموظفين يقارب 115 ألف شخص.
أما فيما يخص “لافارج سوريا”، فهي شركة لإنتاج الإسمنت، قامت بتأسيسها “لافارج” الفرنسية وأشادت مصنعاً لها في منطقة “جبلية” على بعد نحو 160 كيلومتراً شمال شرق مدينة حلب و30 كيلو كتر عن مدينة عين العرب ،و تقدر طاقته الانتاجية ما بين 2.5 و3 ملايين طن سنوياً، وانطلق العمل في المصنع خريف 2010.
وكانت “لافارج سوريا” على رأس أضخم وأهم الاستثمارات الفرنسية في سوريا، التي جاءت في أعقاب “الانفتاح الفرنسي” على بشار الأسد ونظامه، عقب سنوات من العزلة على خلفية حادثة اغتيال رئيس وزراء لبنان “رفيق الحريري” عام 2005.
وثيقة واحدة لم تترك مجالاً للشك، حيث أن الدولة الفرنسية، عن طريق الإدارة العامة للأمن الخارجي، التي كانت على علمٍ تام بالظروف التي حافظت خلالها شركة لافارج على نشاطها في سوريا، داخل منطقة كان يسيطر على جزء منها تنظيم “داعش”، ولكن الوضع تغير بعد ماكشفت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، عن الوثيقة التي حملت تاريخ 26 أغسطس/آب 2014، كما تحمل ختم سري، وهي تشير إلى وجود اتفاق بين شركة الإسمنت وتنظيم “الدولة” من أجل استئناف النشاط التجاري.
وأثار هذا الاتهام إلى تلوث سمعة شركة “لافارج” وعكست فشل الدبلوماسية الفرنسية في سوريا بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، وزاد ذلك بإغفال إدارة “لافارج” لشركائهم في مجموعة “هولسيم” السويسرية، التي اندمجت مع “لافارج” عام 2015.
اتهامات بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”
في أيلول 2016، تقدمت وزارة الاقتصاد الفرنسية بشكوى ضد لافارج، ما أدّى إلى فتح تحقيق أولي من قبل مكتب المدعي العام في باريس وإبلاغ دائرة الجمارك القضائية الوطنية، تتعلق الشكوى بفرض الاتحاد الأوروبي “حظراً على شراء نفط في سوريا في إطار سلسلة عقوبات ضد نظام الأسد، وفي ذات العام تلقت “لافارج” شكوى ثانية قدمتها منظمة “شيربا” و”المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان”، وهي تتعلق بمقاضاة الشركة بتهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية”، وفي حزيران 2017، فتح مكتب المدعي العام في باريس تحقيقاً قضائياً بتهمة “تمويل مشروع إرهابي” و”تعريض حياة الآخرين للخطر”، ما دعى إدارة الجمارك القضائية الفرنسية للملاحقة أيضاً، وتوصلها إلى أن شركة “لافارج” في سوريا، دفعت مبالغ للجماعات الجهادية لكي يستمر مصنع الأسمنت في العمل، ولتؤكد أيضاً أن إدارة الشركة صادقت على تسليم هذه الأموال عبر تقديم مستندات محاسبية مزوّرة.
وفي 2019 سُربت “وثيقة” تؤكد بأن “لافارج” قد دفعت ملايين الدولارات لمدة عامين تقريباً للجماعات الإرهابية، بما في ذلك تنظيم “داعش”، واتهم القضاء الفرنسي “الشركة” أنه تم دفع هذه المبالغ في عملية ابتزاز تقليدية في منطقة حرب للتمكن من عبور نقاط التفتيش لمواصلة أنشطة “لافارج” المربحة في سوريا وللحد من مخاطر الهجمات أو الاختطاف للعاملين فيها.
استمرت المحكمة في تتبع هذه النقطة بطلب من مكتب المدعي العام، الذي أكّد مراراً أن الشركة كانت تتصرف بمعرفة دقيقة بأعمال المشروع الإرهابي، لتحصل الشركة في تشرين الثاني 2019 على إلغاء لائحة الاتهام لعام 2018 عن نفس تهمة “التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية” من نفس محكمة الاستئناف، قبل أن تلغيها محكمة النقض في أيلول/سبتمبر 2021.
الاعتراف بـ “الذنب”
في الثامن عشر من تشرين الثاني 2022، أقرت “لافارج” أمام أحد المحاكم الأمريكية بتقديمها مدفوعات مالية لتنظيم “داعش” في سوريا، ووافقت على دفع 778 مليون دولار ودفع غرامة قدرها 90 مليون دولار، وهو ما أكّده مصدر للوكالة الفرنسية “فرانس برس”، والذي أكّد تغريم الشركة 778 مليون دولار في الولايات المتحدة لدعمها مجموعات إرهابية خلال الحرب في سوريا.
ونقلت عن بيان لشركة لافارج للإسمنت الفرنسية ومجموعة “هولسيم” السويسرية الأم، أن “لافارج وشركتها الفرعية لافارج للإسمنت سوريا التي تم حلها وافقتا على الاعتراف بالذنب بتهمة التآمر لتقديم دعم مادي لمنظمات إرهابية أجنبية محددة في سوريا من آب 2013 حتى تشرين الأول 2014.
هل دفعت “لافارج” أموالاً لـ”قسد”
ما ورد في بيانات اتهام “لافارج” أنها دفعت الأموال “لجماعات إرهابية بينها تنظيم داعش ووسطاء من أجل الحفاظ على نشاط مصنعها، وتأمين مرور موظفيها وشاحناتها وتحرير مخطوفين وشراء نفط ومواد أولية” بين عامي 2011 و 2014، ما يؤكد أن هناك تنظيمات أخرى كانت تتقاضى الأموال من الشركة نظير الحماية.
وعلّق المحلل السياسي والباحث “تركي مصطفى” قائلاً: “في الحقيقة إن مصنع “لافارج” كان يدفع أموالاَ للجماعات المسلحة التي تسيطر على محيط المصنع نظير الحماية، سواء كان تنظيم داعش أو غيره، والمبالغ التي دفعت لـ”وحدات حماية الشعب الكردية” والفصائل في مجلس منبج العسكري كانت أضعاف ما دفع لداعش، ولثلاثة أعوام، إلا أن الإعلام ركز على الجانب المتعلق بتنظيم “داعش”، لاعتبارات قانونية تتعلق بمكافحة الإرهاب، وأخرى مسيسة”.
وكان أول من تلقى الأموال من “لافارج” هي “وحدات الحماية الكردية”، بحسب مدير المخاطر في مصنع لافارج النرويجي “جاكوب ويرنس”، الذي أشار إلى أن “الأكراد في عام 2012 اقتحموا المصنع وسرقوا 20 شاحنة، لابتزاز الشركة، ما اضطرهم للدفع في نهاية المطاف”، ويؤكد “أن وحدات الحماية الكردية حازت الحصة الأكبر، إلا أن الأموال وصلت أيضاً إلى جماعات مسلحة مختلفة من الجيش السوري الحر”.
وفي وثائق تحقيق داخلي صدر عن الشركة الأم “هولسيم لافارج” تبين أن مجموع ما دفع للأكراد والجيش الحر وتنظيم داعش من خلال وسطاء يصل إلى 15.3 مليون دولار حصل منها فراس طلاس (الذي كان يعمل لصالح لافارج) وشركته “ماس” على 4.15 مليون، إضافة إلى مدفوعات أمنية، مُررت من خلال طلاس تقدر بـ5.38 مليون، ومدفوعات إلى وسطاء ومزودين مختلفين للمواد الأولية بمن في ذلك تجار مقيمون في الرقة يبيعون الرماد البوزولانكي بعلم تنظيم داعش.
تاريخ العلاقة بحسب خبراء سوريين؟
يؤكد المحامي والقانوني السوري “عبدالناصر حوشان” والذي كتب أبحاثاً عميقة عن قضية الشركة منذ إنشائها، ويقول: “إن “لافارج” تأسست في سوريا عام 2007 وليس عام 2010 وهي شركة متخصّصة في إنتاج الإسمنت حيث اشترى مستثمريها معمل الإسمنت في منطقة “الشلبيّة”- التي تبعد عن محافظة حلب قرابة 160 كيلو متر والقريبة من مدينة “عين العرب” (كوباني)- من شركة “أوراسيوم” المصرية ومنحت الشركة قسم من الأسهم لـ”فراس طلاس” ليصبح شريكاً سورياً فيها، وفي عام 2012 تعاقدت الشركة مع قوات الحماية الذاتية في شمال شرقي سوريا، لـ”حراسة المعمل”، وبعد انسحاب النظام من الرقة تعاقدت الشركة مع تنظيم “الدولة” عبر وسيط أردني لتولي التنظيم حراسة المعمل، ثم تطورت العلاقة بينهما لتقوم بشراء المواد الأوليّة للإنتاج، وبعد الضجة العالمية التي أحدثها التنظيم وتصنيفه على لوائح الإرهاب الدولية بدأت عيون الصحفيين الاستقصائيين تبحث عن تفاصيله وكان لـ”صيحفة اللوموند” السبق في اكتشاف هذه العلاقة.
ويضيف: “باعتبار أن ما قامت به الشركة يعتبر في القانون الوطني الفرنسي “جريمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية”، فإنه يمكن لأي شخص أو مجموعة أو منظمة تقديم أخبار إلى النائب العام الفرنسي لفتح التحقيق، و بعد نشر تحقيق صحيفة “اللوموند” ووصوله إلى النائب العام أجبرت السلطات القضائية على فتح التحقيق.
ويؤكد القانوني لـ”وكالة ثقة” أن الشركة كانت تهدف إلى دوام استمرار الإنتاج على أمل تغيير الأمر الواقع وعودة النظام إلى الرقة فكانت توقعاتها (خاطئة)، فوجدت نفسها في مأزق فانسحبت بعد سيطرة التنظيم على الرقة، ليتبين فيما بعد أن هناك شبكة من تجار الحروب كانت تدير عملية التمويل، موزعة ما بين “كندا ولبنان والأردن وتركيا”، عبر شركات يُديرها سوريون وأردنيون و لبنانيون ومدير الانتاج في المعمل الذي كان عميلاً للنظام السوري.
وأوضح “حوشان”، إن عملية التمويل تعتبر جريمة “تمويل الإرهاب” في القانون الأمريكيي مِمّا حدا بوزارة العدل الامريكية مقاضاة الشركة وتغريمها المبلغ الذي قُدر بـ “778” مليون دولار أمريكي.
وانطلاقاً مِمّا سلف، يقول المحلل الاقتصادي “فراس إبراهيم”؛ إن إعلان افتتاح شركة “لافارج” في سوريا جاء في أعقاب “الانفتاح الفرنسي” على نظام “بشار الأسد” بعد عام 2005، إذ ولدت “لافارج” من شركة “السورية للإسمنت” التي كان فيها رجل الأعمال “فراس طلاس” ممثلا للجانب السوري بتوجيهات مباشرة من بشار الأسد، بالاتفاق مع رجل الأعمال المصري “نجيب ساويرس”، ووشقيقه “ناصف” وهو مالك شركة “أوراسكوم” للإنشاء والصناعة، اللذات اتفقا على بناء المصنع تحت مسمى “السورية للإسمنت” بشراكة مع “طلاس” وعقب إبان القيام بتشييد المصنع، حدث اندماج بين “أوراسكوم” و”لافارج”، وهكذا آلت ملكية المصنع في سوريا إلى الكيان الوليد، وآلت حصة “فراس طلاس” في “أوراسكوم” إلى حصة في “لافارج”.
وعليه عمد النظام السوري إلى مصادرة حصة “طلاس” في شركة “لافارج سوريا”ؤ وملّكها لنظامه ممثلا بوزارة المالية، كفعل من أفعال الانتقام، مستخدما سلطات “محكمة قضايا الإرهاب” التي اتهمت “طلاس” بتمويل “الإرهاب” واستولت على حصته، فيما يشبه عملية “التأميم”، بحسب ماوصفها المحلل “إبراهيم”.
تحقيق يُثبت أسماء المتورطين
في الثامن عشر من شباط 2016، كشف تحقيق لموقع “زمان الوصل” أسماء بعض المتورطين قي علاقة “لافارج” بتنظيم “الدولة”، لاسيما صفقات النفط والإسمنت، وهم:
– “فريديريك جوليبوا”: الرئيس التنفيذي الحالي لشركة “لافارج سوريا”، فرنسي الجنسية.
-“برونو بيشو”: الرئيس التنفيذي الذي شغل منصبه منذ منذ تأسيس “لافارج سوريا” حتى أواسط 2014، فرنسي الجنسية.
– “ممدوح الخالد”: مدير مصنع “لافارج سوريا”، ومدير المشتريات بالتفويض، كان يشغل منصب مدير مصنع حماة للإسمنت سابقا، سوري الجنسية.
– مدير المخاطر: شغل هذا المنصب الذي وصفه تحقيق “زمان الوصل” بأنه “منصب استخباراتي” كل من النرويجي “جاكوب ويرنس”، والأردني “أحمد” (تسلم منصبه في 2013)، وكلا الشخصين انخرطا مباشرة في بناء علافات التعاون مع مختلف الأطراف بما فيها التنظيم.
– مازن شيخ عوض: مدير الموارد البشرية والمخول بالتوقيع وإدارة شؤون “لافارج سوريا” قانونيا، يتخذ من مكاتب الشركة في يعفور (ريف دمشق) مقرا له، سوري الجنسية.
– “أحمد.ج”: الواجهة وصلة الوصل المالية بين التنظيم و”لافارج سوريا”، وواحد من أهم “موردي” النفط إلى “لافارج سوريا”، حيث تقوم الشركة بإصدار سندات دفع مستحقات النفط باسم هذا الشخص، الذي ينحدر من الرقة.
وعلى ماوردناه آنفاً، يُعلق الباحث السياسي “أديب المنشف” في حديث خاص لوكالة ثقة، إن ما دفع الشركة في سوريا لهذا العمل هو ربما سيرورة العمل الاقتصادي لها، وهذا ماسيحدث في أي منطقة حرب، حيث تسيطر الفصائل المتنافسة على موارد ترتبط ببعضها بعضاً، ولكن قد يرى الكثير أنها مؤامرة كبرى أو مجموعة تدير بنشاط أعمال هذا السوق من وراء الكواليس”.
وتكراراً لما ذكرناه بدايةً فإن هذا التحقيق القضائي بدأ في حزيران/يونيو 2017، بشبهة أن الشركة دفعت في عامي 2013 و2014 عبر فرعها السوري “لافارج” حوالي 13 مليون يورو، لجماعات إرهابية بينها تنظيم “الدولة” ووسطاء من أجل الحفاظ على نشاط مصنعها في سوريا.