
من فتة العدس إلى شرائح الستيك.. فواتير المطاعم الفاخرة تفضح الفجوة الطبقية في دمشق
بينما يقف السكان عاجزون عن تأمين حاجاتهم الأساسية براتب لا يتجاوز 500 ألف ليرة شهرياً، في قلب العاصمة “دمشق”، تتجلى مفارقة اقتصادية صارخة داخل مطاعم فاخرة تنتشر في أحياء “المالكي وأبو رمانة وباب توما وباب شرقي”، تعكس اتساع الفجوة الطبقية في بلد يعيش أزمة معيشية خانقة.
ورغم شكاوى المواطنين من الأسعار الخيالية، تستمر هذه المطاعم باستقطاب شريحة ميسورة، غير معنية بتقلبات السوق أو ضعف القوة الشرائية لمعظم السوريين، وسط غياب أدنى معايير العدالة الاقتصادية.
يروي “محمد نور”، وهو شاب يعمل في مؤسسة النقل بدمشق، تجربته مع أسرته عندما قرر اصطحاب عائلته إلى أحد مطاعم في مول “المالكي”، ويقول: التجربة بدأت بأجواء مميزة وخدمة لافتة، وانتهت بصدمة، لقد دفعت ثلاثة ملايين ليرة لقاء وجبة من أطباق مشوية ومقبلات ومشروبات عادية، شعرت أنني خرجت من معرض سيارات وليس من مطعم”.
يضيف بنبرة ساخرة أن راتبه لا يكفي سوى لتغطية ثلث هذه الكلفة، متسائلاً كيف يمكن لمثل هذه المطاعم أن تعمل بشكل طبيعي في بلد تعيش فيه أغلبية السكان تحت خط الفقر.
في زاوية أخرى من المشهد، يكشف ياسر محمود، عامل في المطعم، عن نوعية الزبائن الذين يرتادون هذه الأماكن، قائلاً: “معظمهم رجال أعمال، تجار، أو مغتربون عادوا مؤقتاً، وهم عادةً لا يسألون عن السعر، فهم يطلبون الكركند والمحار، ويضيفون زجاجة مشروب تصل وحدها إلى مليون ليرة”.
ويقول ياسر، مشيراً إلى أن بعض الزبائن ينفقون أكثر من 10 ملايين ليرة في جلسة واحدة، يدفعونها دون تردد، مؤكداً أن المطاعم لا تضع قوائم أسعار واضحة، بل تعتمد على الزبون “الذي لا يسأل”، ويعتبر السعر جزءاً من هيبة المكان.
بدوره، تواصلنا مع صاحب أحد المطاعم الفاخرة في حي باب توما، والذي اشترط عدم ذكر اسمه، وقال إن الأسعار “تعكس الواقع الاقتصادي وليس مبالغة”، مشيراً إلى أن تكلفة التشغيل باتت مرهقة، من الكهرباء التي تُغطى عبر مولدات خاصة، إلى المواد المستوردة التي تتغير أسعارها أسبوعياً.
وأضاف: “كيلو اللحم المستورد ارتفع 30% خلال عشرة أيام فقط، فكيف يمكن أن نحافظ على الأسعار في هذه الظروف، مضيفاً أن المطعم يقدم “تجربة متكاملة” تشمل الديكور والموسيقى والخدمة، وليس مجرد طعام.
ولكن الخبير الاقتصادي الدكتور بسام خليل يرى في هذه الظاهرة مؤشراً على خلل هيكلي عميق في السوق، إذ يقول إن الأسعار الخيالية لا تعكس فقط تكاليف التشغيل، بل تكشف عن غياب الرقابة، وتآكل مؤسسات الضبط الاقتصادي.
وتابع: “ما يحدث هو نتيجة تراكمية لانهيار الإنتاج المحلي، والاحتكار، وتضخم غير منضبط في قطاع الخدمات”، مشدداً على أن الفوضى التسعيرية لا يمكن ضبطها إلا عبر سياسات تدخلية ذكية، تشمل تسعيراً مركزياً للمواد الأساسية، وتقييد أرباح القطاعات الخدمية غير الإنتاجية.
في الأثناء، يستمر التناقض، ففي زقاق ضيق يجاور أحد هذه المطاعم، يجلس أبو كمال، رجل خمسيني يعمل بائعاً للخبز، يتحدث بنبرة فيها خليط من السخرية والمرارة: “أنا أبيع 20 ربطة خبز يومياً، أربح منها 5 آلاف ليرة” – مضيفاً: “الزبون الذي يدخل هناك يدفع ما أربحه في شهر أو ثلاثة أشهر على طبق كبة!”.
ويضحك قبل أن يكمل: “والأسوأ أن أحدهم مرّ بجانبي قبل أيام وسأل إن كان معي صرافة لأنه لا يملك سوى دولارات”.
هذا وتظل دمشق شاهدة على ازدواجية اقتصادية تتسع كل يوم، فبين مواطن يبحث عن طعام رخيص يسد جوع أطفاله، وآخر ينفق راتب عام على وجبة فاخرة، وبين مطاعم الفقراء ومطاعم الأغنياء، تختزل المدينة قصة بلدٍ لم يعد يعرف الطاولة التي ينتمي إليها.