إرشي بتمشي.. سوريا سماسرة في كل مكان
إرشي بتمشي.. سوريا سماسرة في كل مكان
من ادلب إلى جرابلس:
تاركاً وراءه أنقاض حيّه في ريف حلب الغربي، مصطحباً أربعة حقائب صغيرة تحتوي ملابس بسيطة لأطفاله، يجلس “صلاح” على التراب إلى جانب حقائبه و يمازح أطفاله تارةً بصوت هامس ليهوّن عليهم العذاب ما استطاع، محدقاً في الأفق تارة أخرى حيث تقبع مدينة الريحانية المضيئة هناك خلف الأسلاك الشائكة.
من ريف حلب الغربي إلى قرية خربة الجوز الحدودية مع تركيا في ريف إدلب حيث الشريط الحدودي الممتد بين الجبال الوعرة والمنفذ الوحيد للعبور إلى الأراضي التركية “بطريقة غير شرعية”، وصل صلاح وعائلته عند ساعات المساء الأولى مع عشرات الأسر السورية، بعد سلوكهم أراضٍ زراعية وسط الظلام الدامس.
يقول صلاح لوكالة ثقة : إن غالبية تلك العائلات تريد الإنتقال من مناطق ريف حلب الغربي و إدلب التي تتعرض للقصف المتواصل، نحو ريف حلب الشمالي إلا أن الطريق الوحيد بين المنطقتين تسيطر عليه وحدات حماية الشعب الكردية، ما يجعل الأمر صعباً و مجازفة لاعتقال الوحدات الكردية أي شخص مشتبه بانتماءه للمعارضة المسلحة.
لدى سؤالنا له لماذا اخترت الشمال السوري، أجاب صلاح: هناك حيث المنطقة الآمنة والحياة الأكثر استقراراً، و أكد بأنه لا يريد الحياة و لا الموت بعيداً عن سوريا.
بعد إغلاق معبر باب الهوى من الجانب التركي أمام السوريين، وقطع الطريق بين ريفي حلب الشمالي والغربي من قبل قوات النظام ومخاطر التعرض للاعتقال في المناطق الكردية بات الطريق الوحيد لانتقال العائلات من مناطق سيطرة المعارضة في ريفي حلب وإدلب إلى مناطق درع الفرات هو العبور الغير شرعي من سوريا إلى تركيا ثم العبور مرة أخرى بالطريقة نفسها من تركيا إلى مناطق سيطرة درع الفرات في الشمال السوري.
وأضاف صلاح: ماحدث في سوريا أمر عجيب لم يحدث في أي بلد آخر فالانتقال من منطقة سورية إلى منطقة سورية أخرى صار المرور عبر أجنبية أحد الخيارات، فالطريق الذي كان من المفترض أن نسلكه لايتعدى مسافة سبعة كيلومترات ولكن الظروف الحالية تحتم علينا أن نقطع مسافة تتجاوز مئة وعشرين كيلو متر داخل دولة أجنبية لقطع تلك المسافة، ونوه صلاح إلى المخاطر الكبيرة في عبور هذه المنطقة كون حرس الحدودي التركي يفرض رقابة صارمة وتشديد كثيف يصل إلى حد إطلاق النار المباشر على العابرين كما يقول.
وأشار صلاح إلى أنه على الحدود مع عائلته منذ أحد عشر يوماً تخللها أحد عشر محاولة فاشلة للعبور في كل مرة يقطعون فيها الطرقات الزراعية الوعرة و بعد ساعات من العذاب يخبرهم المهرب بأن الطريق غير سالك، وتتكرر المحاولة كل يوم بانتظار لحظة تغفو فيها أنظار الحرس لتنتهي المشقة الأولى بانتظار العديد من المصاعب الأخرى حتى الوصول للمنطقة التي يقصدونها.
وألمح صلاح إلى التكلفة الباهظة التي يتم دفعها للمهربين والسماسرة لعبور الحدود السورية إلى الداخل التركي تصل ل١٤٠٠ دولار للشخص الواحد وأشار إلى أن هذا المبلغ سيتم دفعه مرة أخرى للسماسرة عند العبور العكسي من الداخل التركي إلى مناطق درع الفرات وهي أرقام خيالية يصعب تأمينها بسهولة.
بدوره “أسامة الديبو” -أحد القادمين من مدينة ادلب إلى ريف حلب الشمالي عبر مناطق سيطرة الوحدات الكردية- أكّد لوكالة ثقة: أن العبور ضمن هذه المناطق يعتبر مجازفة كبيرة لا تخلو من المخاطرة بمستقبل ومصير الشخص الذي يريد العبور بسبب الانتهازية وحالات الاعتقال الكثيرة من قبل القوات المسيطرة على هذه المنطقة للمارين، وهو مايجبر الناس على دفع الرشاوي والأتاوات التي تفرض عليهم عن طريق السماسرة لحواجز الوحدات تلافياً للإعتقال أو الخطف.
وأشار أسامة إلى قيام هذه الوحدات باعتقال خمسة من أقربائه بتهمة الانتساب إلى المعارضة المسلحة وأن مصيرهم مايزال مجهولاً حتى اللحظة، كما حال الكثير من الشباب الذين تم اعتقالهم داخل مناطق سيطرة حزب pyd الكردي، ولفت أسامة إلى أنه اضطر لدفع مبلغ قدره خمسون ألف ليرة سورية لتأمين نفسه عدا عن دفعه لضريبة فرضتها الوحدات الكردية على أثاث منزله كي تسمح له بالعبور، وهي ضريبة ثابتة تفرضها حواجزهم على كل سيارة تحمل أي شيء يعبر مناطق سيطرتها.
من الرقة إلى جرابلس:
وفي سياق متصل أكد أحمد حاج خليل ٤٧ عاماً مدني قادم من مدينة الرقة إلى ريف حلب الشمالي لوكالة ثقة: الإنتقال من مناطق سيطرة تنظيم داعش إلى مناطق سيطرة المعارضة يعتبر نوعا من الانتحار نتيجة منع التنظيم للمدنيين من الانتقال إلى مناطق سيطرة “الكفار” حسب زعمهم، وأشار “حاج خليل” إلى تعرض المدنيين الهاربين من مناطق سيطرة التنظيم للقتل والذبح في حال القبض عليم، إضافة إلى مخاطر الألغام المنتشرة بكثافة في مناطق التماس بين المنطقتين ولفت أحمد إلى وجود ظاهرة السماسرة بشكل محدود بين عناصر التنظيم أنفسهم مستغلين حاجة الناس للعبور إلى مناطق سيطرة المعارضة وذلك بإجبارهم على دفع مبالغ كبيرة تصل إلى ١٠٠ ألف ليرة سورية للشخص الواحد لتأمين طريق آمن للخروج من مناطق سيطرة التنظيم.
من درعا إلى ريف إدلب:
يروي سالم قصة رحلته الطويلة من مدينة درعا إلى ريف إدلب لوكالة ثقة، و يقول بأنه أمضى أحد عشر يوماً على الطرقات وفي البراري حتى استطاع الإنتقال من مدينة درعا في جنوب سوريا إلى ريف إدلب يشير إلى أنها كانت رحلة ومغامرة مليئة بالمصاعب والأحداث الغريبة بدأت من حي القصور الواقع تحت سيطرة قوات النظام في محافظة درعا -حيث أجبر على مغادرة المنطقة بسبب الظروف الأمنية القاسية-.
ويضيف سالم أنه تعاقد مع أحد السماسرة وهو قيادي في قوات الدفاع الوطني التابع لقوات النظام من أجل تهريبه إلى أقرب نقطة يسيطر عليها الجيش الحر في ريف درعا مقابل مبلغ ثمانين ألف ليرة سورية، وعند وصوله إلى المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الحر اضطر مرة أخرى لدفع مبلغ آخر قدره ثلاثون ألف ليرة سورية كي يتم تأمينه إلى أقرب نقطة يسيطر عليها تنظيم داعش في البادية السورية حيث الطريق الوحيد للانتقال إلى الشمال السوري وأكد سالم أنه عاش حالة رعب قاسية في مناطق سيطرة تنظيم داعش لحظة دخوله إليها، حيث قابله عناصر التنظيم بسجنه لأربعة أيام متواصلة تعرض من خلالها للتحقيق والمساءلة تحت ضغط نفسي رهيب واتهامات كثيرة قد تودي بمصيره إلى الذبح من بينها اتهامه بانتمائه للجيش الحر تارة ولقوات النظام تارة أخرى قبل أن يتم إطلاق سراحه والسماح له بالتنقل ضمن الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم.
وأشار سالم إلى أنه سلك طريق البادية عبر صحراء تدمر والبوكمال فمدينة دير الزور ثم الرقة وصولاً إلى مدينة الباب في ريف حلب الشرقي حيث المحطة الأصعب والأكثر خطورة وهي إيجاد طريق آمن يوصله إلى مناطق سيطرة المعارضة المسلحة حيث اضطر مرة أخرى للتعاقد مع السماسرة من أجل تأمين وصوله إلى تلك المناطق بعيدا عن أعين التنظيم ولفت سالم إلى أنه قام بدفع مبلغ مادي آخر لأحد المهربين وصل إلى خمسة عشر ألف ليرة سورية حتى استطاع الوصول إلى مدينة اعزاز المحطة الأخيرة الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة.
غيض من فيض قصص يرويها السوريون عن نزوحهم و الخوف و الرعب الذي عانوه، فلا تكاد عائلة من العوائل السورية تخلو من قصة نزوح و تنقلات بين مناطق سيطرة الأطراف المتنازعة في سوريا، فمن القصف و الأنقاض و ذكريات بيت يحمله من غادر مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، إلى الذبح و الخطف و العقوبات الغريبة في مناطق داعش، و لا تنتهي بتسلط الشبيحة و الاعتقالات في مناطق النظام، و ما خفي أعظم.