
لماذا ألمانيا تحديداً؟؟؟!!
لماذا ألمانيا تحديداً؟؟؟!!
درسنا في بعض مقررات القانون الدولي مصطلح “الاختصاص القضائي العالمي” وهو مصطلح تقريباً يُطلَق على بعض الدول “ذات الاختصاص القضائي الشامل”
وهو حق كل دولة والتزامها باتخاذ الإجراءات القضائية فيما يتعلق ببعض الجرائم الخطيرة، بغض النظر عن موقع حدوث الجريمة وجنسية مقترف الجريمة أو الضحية، وتتمثل الصلة الوحيدة التي لا بدَّ من توافرها بين الجريمة والدولة التي تقيم الدعوى وتتولى المحاكمة، في التواجد الفعلي لمرتكب الجريمة داخل نطاق سلطة الدولة، وحق الاختصاص القضائي العالمي هذا الذي تمارسه الدولة غير مبني على أي حق من حقوق السيادة لا بالنسبة للجريمة (الاختصاص الذاتي) ولا بالنسبة للأرض (كالاختصاص الشخصي) إذ لا تقوم الدولة حين تمارس بالدفاع عن أية مصلحة خاصة لها في ذلك، ولكنها تتدخل توخياً لغاية إنسانية نبيلة هي (مصلحة المجتمع الدولي ككل) كي لا يبقى أي مجرم مسؤول عن ارتكاب الجرائم الخطيرة دون عقاب.
ولا بد من توضيح الاختلاف بين مفهوم الاختصاص العالمي في القانون الدولي الجنائي، والقوانين الجنائية الوطنية:
إن مبدأ الاختصاص العالمي أو ما يعرف بالاختصاص الشامل الذي أخذت به العديد من الدول من أجل تضامنها وتكاتفها لمحاربة الجرائم التي تتعدى آثارها الدولة الواحدة، بإعطاء الدولة التي تقبض على مرتكبيها الحق في محاكمة وإنزال العقاب بهم، ولو لم تكن هذه الدولة ضمن الدول المتضررة من ارتكاب الجريمة وأياً كانت جنسية الجناة أو المجني عليهم، وهو بذلك يختلف عن مفهوم عالمية الاختصاص الجنائي في القانون الدولي الجنائي، فلكي تمارس الدولة “الاختصاص العالمي الشامل” يجب أن يكون هناك نص في قانونها الجنائي الداخلي يجرّم الأفعال الخاضعة لهذا الاختصاص.
كما إن ممارسة هذا الاختصاص من قبل القاضي الوطني محكوم بمبدأ (تسليم المجرمين) إذ أن الأولوية في التطبيق لقانون الدولة التي وقعت فيها الجريمة أو أحد أركانها وهذا يعني إن الاختصاص الشامل في القوانين الداخلية هو اختصاص احتياطي وليس أصيل، أي يأتي في مرحلة تالية لنظام التسليم، وهذه قاعدة مستقرة من قواعد القوانين الجنائية الوطنية، وبموجب الكثير من قرارات عدة مؤتمرات دولية.
ولكن الأمر على خلاف ذلك في مفهوم القانون الدولي الجنائي، فالغرض من الاختصاص العالمي هو حرمان المتهمين باقتراف الجرائم الخطيرة -التي تعتبر إهانة للمجتمع الدولي ككل- من الحصول على ملاذ آمن، كما أنه ينظر إلى مرتكب الجرائم الخطيرة بأنه (عدو للجنس الإنساني بكامله) لذا من حق جميع الدول ومن واجبها أيضاً ملاحقته ومحاكمته ومعاقبته ومن العار على المجتمع الدولي أن يفلت مثل هذا المجرم من العقاب، ويترتب على هذا القول تطبيق عالمية القانون الدولي الجنائي بصفة أصلية وليس بصفة احتياطية، ذلك أن هناك مجموعة من القيم والمصالح تهم الدول بأسرها تتطلب الحماية الجنائية (وتتمثل المصلحة الرئيسة بحقوق الإنسان) والدولة التي تمارس اختصاصها في حماية هذه القيم والمصالح تستند إلى فكرة حماية مصلحة الشعوب لا إلى حق السيادة المطلقة أو حماية مصلحتها الخاصة، وهي إنما تنظر إلى الجريمة المرتكبة على أنها تمثل اعتداء على مصلحة دولية وليست اعتداء على مصلحة خاصة بها، بحيث عندما تقوم بمهمة توقيع العقاب على المتهم فهي تعمل ذلك نيابةً عن المجتمع الدولي ككل.
ومن هذا المنطلق يجب النظر إلى مبدأ العالمية بأنه مبدأ أصيل وليس احتياطي لنظام تسليم المجرمين، بل على العكس يجب أن تختص الدولة التي تقبض على المتهم بمعاقبته، إلا إذا وجدت ظروف تعوق مثل هذه المحاكمة، ففي هذه الحالة قد تلجأ إلى تسليمه.
فمبدأ العالمية في القانون الدولي الجنائي المستمد من فكرة التضامن الدولي في مكافحة الجريمة الدولية يخوّل جميع الدول مباشرة الاختصاص العالمي في الجرائم التي تعتبر انتهاكاً لحقوق الإنسان وتمثل خرقا للنظام الدولي بصرف النظر عن تجريمها في القانون الداخلي للدولة التي تمارس واجب المحاكمة أو أن هذه الجريمة تمسها بصورة مباشرة ولا يشترط أن توجد صلة بين من يعاقب والدولة التي تتولى العقاب، ولا يشترط أيضا وجود صلة بين ولاية القضاء والقانون الواجب التطبيق طبقاً للقاعدة السائدة في التشريعات الوطنية ومفادها أن من له الاختصاص يطبق قانونه، فالقاضي وفقاً لمبدأ العالمية المقرر في القانون الدولي الجنائي يقوم بتنفيذ القانون الدولي الجنائي ويؤدي دور ومهمة المحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ القواعد الجنائية الدولية ويستمد اختصاصه في ذلك من القانون الدولي (فكل من يرتكب فعلاً مجرماً بمقتضى القانون الدولي يخضع لمبدأ العالمية بمفهومه الدولي – للمعاقبة من قبل محاكم الدولة التي تقبض عليه ولو لم يكن قانونها الجنائي يجرّم الفعل المنسوب إليه)
ويمكن القول إن تبرير ذلك من مبدأ سيادة القانون الدولي الجنائي الذي مفاده أنة لا يمكن إعفاء أحد من المسؤولية الدولية الجنائية التي يرتبها القانون الدولي الجنائي بحجة أن الفعل يبيحه القانون الجنائي للدولة القائمة بالمحاكمة، حيث أن القواعد الدولية الجنائية وما ترتبه من آثارها تسمو على القانون الجنائي الداخلي.
* ولكن على أي قاعدة من قواعد القانون الدولي الجنائي يعتمد القاضي الوطني في ممارسته الاختصاص القضائي العالمي على الجرائم التي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان؟؟!!
إذا ما نظرنا إلى الجرائم الدولية نجد هناك بعضاً منها تنص المعاهدات الدولية المنظمة لها صراحةً على حق القضاء الوطني في ممارسة الولاية القضائية العالمية عليها (كالمادة ٥ /ف٢ وَ ف٣) من اتفاقية مناهضة التعذيب لعام ١٩٨٤ والمواد (٥٠ من الاتفاقية الأولى و ٥١ من الثانية و ١٣٠ من الثالثة و ١٤٧ من الرابعة) لاتفاقيات جنيف لعام ١٩٤٩ بشأن الانتهاكات الجسيمة التي هي جرائم حرب تخضع للاختصاص القضائي العالمي.
وهناك جرائم لا يوجد نص اتفاقي بخصوصها تجيز الولاية العالمية، وتأتي الولاية العالمية عليها من القانون الدولي القائم على العرف (كجريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية)
كما أن الاختصاص العالمي في القانون الدولي العرفي امتدّ ليشمل كل انتهاكات قوانين وأعراف الحرب التي تشكل جرائم حرب، بما في ذلك الانتهاكات التي تحدث في النزاعات المسلحة غير الدولية بالمخالفة للمادة (الثالثة) المشتركة والبروتوكول الإضافي الثاني، فكل الجرائم التي لم تعد خروقاً جسيمة ولم ينظم قواعد الاختصاص لها بموجب هذه الاتفاقيات يعمل فيها بالقانون الدولي العرفي.
وبخصوص جريمة الإبادة الجماعية فعلى الرغم من إن الاتفاقية الخاصة بمنع الإبادة لعام ١٩٤٨ لم تطلب بصورة صريحة من الدول الأطراف ممارسة السلطة القضائية العالمية إلا أن القانون الدولي العرفي أكد على حق الدول في ممارسة هذه السلطة، كما أن واضعي الاتفاقية لم يكن لديهم النية في منع الدول الأطراف في ممارسة هذه السلطة القضائية.
وأخيراً… لا بدَّ من الإشارة إلى مجموعة من الدول ذات الاختصاص القضائي العالمي، وتأتي في مقدمتها ألمانيا، استراليا، النمسا، بلجيكا، كندا، الدانمارك، فنلندا، فرنسا، المكسيك، هولندا، السنغال، إسبانيا، سويسرا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية.
بقلم المحامي عبدو عبد الغفور ✍️